فلسطين

«معبر رفح»: بين فصول الحرب والسياسة

لماذا يحظى معبر رفح بكل هذا القدر من الأهمية السياسية والتاريخية؟ وهل يمكن أن يستمر الجيش الإسرائيلي في احتلاله إلى أجلٍ غير مسمى كما فعل قبل عقود؟

future معبر رفح

في صباح يوم 26 مايو 2024 أعلن أبوعبيدة المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام أن المقاومة في جباليا شمال قطاع غزة أوقعت قوة خاصة إسرائيلية في كمين داخل أحد الأنفاق ونجحت في أسر بعض أفرادها، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تعلن فيها المقاومة عن واقعة أسر منذ السابع من أكتوبر. على رغم نفي العدو بشكل متعجل ما أعلنته المقاومة، فإن الجميع كان يترقب انتقامًا وحشيًا ضد المدنيين كالعادة، لا سيما وفي ظهيرة هذا اليوم، وبعد انقطاع دام أربعة أشهر، أطلقت المقاومة رشقة صاروخية صوب تل أبيب، انطلقت كما زعم العدو من منطقة غير بعيدة عن معبر رفح.

ليلًا، انتقم العدو بمستوى جديد من البشاعة، حيث قصفت طائراته خيامًا للنازحين في غربي مدينة رفح، ليرتقي عشرات النازحين حرقًا في خيامهم، وفي صباح اليوم التالي (27 مايو 2024)، اقترب بعض جنود اللواء 401 المدرع الإسرائيلي بشدة من خط الحدود المصري قرب معبر رفح، ليندلع اشتباك مسلح نادر الحدوث بينهم وبين بعض قوات حرس الحدود المصرية، تتويجًا لتوتر غير مسبوق بين الجانبين بدأ منذ اجتياح قوات العدو معبر رفح قبل ثلاثة أسابيع.

وعلى رغم احتواء الجانبين المصري والإسرائيلي رسميًا الواقعة فإن احتلال العدو للمعبر، ولمعظم خطوط الحدود المعروفة باسم محور فيلادلفيا (محور صلاح الدين) واستمرار سياسة المذابح اليومية في رفح على بعد أمتار من الحدود المصرية، ينذر بأزمة سياسية (وربما عسكرية) غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين الجانبين منذ اتفاقية كامب ديفيد قبل 46 عامًا، وتصر مصر حاليًا على عدم فتح معبر رفح إلا بعد انسحاب الإسرائيليين منه، بينما تضغط الإدارة الأمريكية على مصر لفتح المعبر بما يعني القبول الضمني بالأمر الواقع الجديد الذي فرضته إسرائيل. لكن لماذا يحظى معبر رفح بكل هذا القدر من الأهمية السياسية والتاريخية؟

احتلالات عدة

لمدينة رفح المنقسمة حاليًا بين فلسطينية ومصرية تاريخ حافل منذ الأزمنة الفرعونية واليونانية، ثم العصور الإسلامية المتعاقبة، وصولًا إلى الوقت الراهن، وكان السبب في ذلك بالأساس هو موقعها المفصلي عند التقاء مصر والشام، في قلب معترك صراعات التمدد والسيطرة لكل القوى الفاعلة المختلفة في ذلك الإقليم على مدار السنين والقرون.

بعد احتلال قطاع غزة إثر هزيمة 1967 القاسية، وانتزاع غزة من السيطرة الإدارية المصرية، تعرضت رفح لما تعرض له باقي القطاع من احتلالٍ وأحزمة استيطانية تفصلها عن خان يونس شمالًا، وعن سيناء غربًا وجنوبًا. ومع عودة السيادة المصرية إلى سيناء إثر توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية في مارس 1979، تفاقمت مشكلة تقسيم رفح على جانبي الحدود، فأُنشئ معبر رفح لعبور الأفراد بين جانبي رفح، وافتُتح رسميًا مع اكتمال الانسحاب الإسرائيلي من سيناء يوم 25 أبريل 1982، ومع الوقت أصبح هو المعبر الوحيد المباشر لعبور الأفراد والبضائع بين غزة والعالم العربي، فباقي معابر قطاع غزة مثل: معبر إيرز، وبيت حانون وكارني، والشجاعية.. إلخ، هي معابر بين غزة وأراضي فلسطين المحتلة.

في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1992) واتفاقية أوسلو 1993 وتفاهمات غزة-أريحا 1994، منحت إسرائيل سلطة رام الله الفلسطينية إشرافًا جزئيًا على المعبر من جهة غزة، مع استمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية عبر كاميرات مراقبة ووسائط تجسس متصلة بمعبر كرم أبوسالم القريب (2 كم من معبر رفح). لكن خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت في سبتمبر من عام 2000، وتصاعد خلالها نفوذ وعمليات حركات المقاومة الإسلامية في غزة، حماس والجهاد وألوية الناصر.. إلخ، احتلت إسرائيل المعبر بشكل كامل مجددًا اعتبارًا من يوم 17 يناير 2001، وستدفع إسرائيل ثمنًا باهظًا لهذا الاحتلال كما سنذكر.

بعد أربعة أعوام ومع تصاعد الخسائر الإسرائيلية في القطاع، أعلنت حكومة شارون الانسحاب الكامل من غزة عسكريًا واستيطانيًا، فيما عرف بفك الارتباط أحادي الجانب.

أراد شارون أن يستثني منطقة الحدود المصرية-الفلسطينية في قطاع غزة من خطة فك الارتباط أحادي الجانب مع غزة، لكنه عاد وسحب قواته من الحدود ومن المعبر بعد توقيع اتفاقية المعابر نوفمبر 2005 مع مصر والسلطة الفلسطينية التي كانت لا تزال آنذاك تحكم قطاع غزة اسميًا، والتي نصت على سيطرة قوات حرس الحدود المصرية على الجهة المصرية من المعبر، ووجود مراقبين من الاتحاد الأوروبي، لضمان منع تهريب الأفراد والبضائع والأسلحة عبر المعبر بشكل يعرض إسرائيل للخطر.

بعد الحسم العسكري الذي فرضته حركة حماس في يونيو 2007، وسيطرتها على كامل قطاع غزة، وطرد قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، فرض العدو حصارًا بريًا وبحريًا وجويًا على قطاع غزة، وأغلقت السلطات المصرية معبر رفح من جهتها. ومع تفاقم الحصار في الشهور الأخيرة من عام 2007، ومطلع 2008، اعتصم الآلاف من أهالي غزة بالتنسيق مع حكومة حماس في القطاع، في الجانب الفلسطيني من معبر رفح مطالبين بفتح المعبر، ثم فُجّرَ الجدار الفاصل يوم 27 يناير 2008، غير بعيد عن المعبر، وعبر عشرات الآلاف إلى سيناء لشراء احتياجاتهم، واستمر وجودهم في سيناء قرابة أسبوع.

وكانت المطالبة بفتح معبر رفح لكسر حصار غزة عنوانًا دائمًا طوال فترة الحصار الطويل، لا سيّما أثناء الحروب الدامية التي كان يشنها العدو الإسرائيلي بشكل متكرر ضد القطاع كحرب 2008-2009، وحرب 2014. وفي أعقاب انتفاضة يناير 2011 في مصر، وعزل الرئيس مبارك، أعادت الحكومة المصرية بضغط شعبي فتح معبر رفح في مايو 2011، بشكل شبه منتظم.

وتحتفي الذاكرة الفلسطينية في غزة، والذاكرة العربية، بعبور رئيس الوزراء المصري هشام قنديل يوم 14 نوفمبر 2012 إلى قطاع غزة عبر معبر رفح أثناء عدوان نوفمبر 2012 الإسرائيلي، وسماح الحكومة المصرية لوفود تضامن شعبية وطبية للولوج إلى غزة عبر المعبر، وكانت تلك الجولة التصعيدية التي استمرت لأسبوع واحد من أقصر الحروب الإسرائيلية ضد القطاع منذ حصاره عام 2007.

في أعقاب أحداث 30 يونيو 2013 في مصر، وعزل الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، تصاعد التوتر بين حماس والحكم المصري الجديد المتوجس من حماس ويحسبها على خصمه جماعة الإخوان المسلمين، لكن أصبح صمود المقاومة الكبير في حرب 2014 الإسرائيلية الواسعة ضد القطاع، وحفاظها على بقائها رقمًا صعبًا في معادلات غزة وفلسطين، تحلحل الموقف الرسمي المصري تدريجيًا، وجرت تفاهمات بين حماس والأجهزة المصرية في جهود مكافحة الجماعات الجهادية والداعشية في سيناء ومنع غزة أن تكونَ ظهيرًا لها، وتحسنت العلاقات تدريجيًا بين الجانبين، وظهر ذلك في الخطاب الإعلامي الرسمي المصري المعارض للحرب التي شنها العدو ضد قطاع غزة في مايو 2021 التي عُرفت فلسطينيًا بمعركة سيف القدس.

ومنذ عام 2018 وفي أعقاب مسيرات العودة التي شارك فيها عشرات الآلاف من سكان قطاع غزة احتجاجًا على طول الحصار وضريبته الإنسانية الباهظة، فتحت مصر بوابة صلاح الدين التي تقع على بعد أقل من خمسة كيلومترات شمال غربي معبر رفح لإدخال البضائع إلى القطاع، ووصل متوسط الشاحنات المارة عبرها إلى قرابة ألف شاحنة شهريًا، ولم يعترض العدو كثيرًا على ذلك اعتقادًا منه أن هذا قد يسهم في احتواء المقاومة في غزة اقتصاديًا.

أما معبر رفح فلم يخصم فتح بوابة صلاح الدين من قيمته الكبيرة المتمثلة في عبور الأفراد من غزة إلى العالم الخارجي وعودتهم إلى القطاع، وانتظم فتح المعبر لعبور الأفراد بشكل كبير منذ فبراير 2021 وحتى السابع من أكتوبر 2023؛ حيث أُغلق المعبر، ولم يُفتَح إلا بتنسيق مصري مع إسرائيل والولايات المتحدة لدخول المساعدات الإنسانية، وللسماح بعبور عدد محدود يوميًا من سكان غزة إلى مصر.

بعد سبعة أشهر من اندلاع طوفان الأقصى، كان لمشهدِ الدبابات الإسرائيلية يوم السابع من مايو 2024، وهي تعربد في الجانب الفلسطيني من معبر رفح وقعٌ صادم، ليس في نفوس الفلسطينيين في غزة والمصريين فحسب، بل كل مناصري فلسطين حول العالم، لا سيما وهي المرة الأولى منذ 2005 التي تحتل فيها إسرائيل هذا المعبر وتعزل قطاع غزة عن مصر.

وهنا يبرز السؤال: هل يمكن أن يستمر الجيش الإسرائيلي في احتلال معبر رفح إلى أجلٍ غير مسمى كما فعل قبل عقود؟

إن فعل هذا سيترتب عليه كلفة سياسية واقتصادية مرتفعة للغاية، تخالف ما أرادته إسرائيل دائمًا من أخذ مزايا الاحتلال دون دفع الثمن؛ إذ إن احتلال المعبر الذي يمثل الشريان الرئيسي لحركة الأفراد والبضائع من وإلى غزة، سيجعل إسرائيل مسئولة حصريًا عن إعاشة قطاع غزة وحياة سكانه. وإلى جانب ما سبق، يخبرنا التاريخ غير البعيد لغزة ولمقاومتها أن ثمن مثل هذا الاحتلال لن يكون قليلًا.

وما أدراكَ ما براكين الغضب!

على مدار الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005)، لم تنقطع عمليات المقاومة ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه في قطاع غزة، ووصلت إلى عشرات العمليات شهريًا، وكان لمنطقة رفح نصيب وافر من الجهد المقاوم ضد الاحتلال، وكان لها السهم المُعلَّى في تطوير ما عُرف لاحقًا بحرب الأنفاق، فقد استفادت المقاومة من خبرات حفر الأنفاق بين جانبي الحدود على مدار عقود، التي سجلت إسرائيل وجودها لأول مرة عام 1983، وبدأت في تطوير وتوسيع شبكات الأنفاق لتهريب ما يمكن تهريبه من السلاح والمتفجرات من سيناء، وكذلك لاستهداف بعض المواقع الإسرائيلية الحصينة في رفح وغيرها من مناطق القطاع عبر تفجيرها من باطن الأرض عبر الأنفاق. وكان العدو يرد بشكل وحشي على تصاعد عمليات المقاومة باجتياحات مدمرة كما حدث في مايو 2004.

منذ منتصف ليل الثامن عشر من مايو 2004، شنت إسرائيل عملية عسكرية إجرامية واسعة سمتها (قوس قزح)؛ اقتحم الإسرائيليون حي تل السلطان غربي رفح -الذي كان يقطنه آنذاك قرابة خمسون ألف فلسطيني- بالعشرات من الدبابات تحت غطاءٍ من مروحيات الأباتشي، ودمروا قرابة 166 منزلًا، واستُشهد العشرات من المدنيين والمقاومين في تلك العملية التي استمرت أيامًا.

ولم يكن الاجتياح الأول ولا الأخير لرفح، فقد سبقها في نفس الشهر اجتياح واسع بعد تفجير سرايا القدس لناقلة جند إسرائيلية قرب رفح أسفر عن مقتل عدد من الجنود الإسرائيليين، وبلغ مجموع ما دمره العدو في رفح في هذا الشهر 300 منزل. لكن لم تنجح تلك الوحشية في كسر إرادة المقاومة في رفح، وسيشهد معبر رفح على ذلك بعد سبعة أشهر فحسب.

نحن الآن في صبيحة الثاني عشر من ديسمبر عام 2004؛ هدوء مريب فوق الأرض في محيط معبر رفح الذي يسيطر عليه العدو الإسرائيلي، لكن تحت الأرض كان هناك نشاط محموم بدأ قبل أربعة أشهر كاملة عندما شرعت المقاومة في حفر نفقين بلغ طول أحدهما 600 متر أسفل موقع عسكري إسرائيلي يشرف على معبر رفح.

في اليوم الموعود، كان أحد النفقين يحتوي على حمولة من المتفجرات بلغت 1300 كجم، التي بمجرد تفجيرها، تعرض الموقع لدمار هائل، وقُتل وأصيب عديد من الجنود والضباط فيه. بالتزامن مع الانفجار، وعبر النفق الثاني، اندفع مجاهدان أحدهما من كتائب القسام، والآخر هو الشهيد المؤيد بالله أغا، من صقور فتح، وانقضّا على الموقع مُستغلين حالة الفوضى، بهدف قتل أكبر عدد من قوات العدو وأسر جندي أو أكثر.

استشهد المؤيد، بينما نجح القسامي في الانسحاب بعد أن قتل وأصاب سبعة جنود إسرائيليين، وكاد يأسر أحد الجنود. وقد أطلقت المقاومة على تلك العملية المدوية اسم براكين الغضب. وكانت تلك العملية البطولية من أواخر العمليات الكبرى قبل الانسحاب الإسرائيلي من غزة.

مما يثير العجب والإعجاب في آن، أنه قبل عامٍ واحد بالتمام من عملية براكين الغضب، وفي منطقة رفح أيضًا، فجّرت كتائب القسام موقع حردون العسكري جنوب منطقة يبنا في رفح، قرب الحدود الفلسطينية-المصرية، بواسطة نفقٍ مفخّخ بلغ طوله أكثر من 200 متر، ودُمر الموقع بشكل كبير في هذا الانفجار الضخم، وقُتل وأصيب عدد من الجنود الإسرائيليين. أي إنه على مدار عام كامل، لم ينجح العدو في تطوير آليات تمنع تكرار تدمير مواقعه عبر الأنفاق في نفس المنطقة الجغرافية.

وفي يوم 25 يونيو 2006، نجحت المقاومة فيما لم تنجح فيه قبل عام ونصف في عملية براكين الغضب، عندما نفذت عملية الوهم المتبدد غير بعيد عن معبر رفح، ضد موقع كرم أبوسالم الإسرائيلي، ونجحت في أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي مثّلت صفقة التبادل التاريخية لعودته لإسرائيل عام 2011، انقلابًا استراتيجيًا في تاريخ الصراع؛ حيث تم الإفراج عنه مقابل المئات من الفلسطينيين، ومن بينهم قادة مقاومون مثل يحيى السنوار قائد حركة حماس في غزة.

خاتمة

بناء على ما عرضناه آنفًا من سردٍ تاريخي أكد أن البقاء على أي بقعة مهمة من أرض غزة له ثمن ليس بالقليل، من المرجح أن ينسحب العدو الإسرائيلي من معبر رفح بعد أسابيع أو أشهر، فضريبة السيطرة المباشرة عليه عسكريًا وسياسيًا باهظة، لكنه سيبذل قصارى جهده أن يستغل المعبر كورقةٍ تفاوضية يحصل مقابلها على بعض الامتيازات.

سيحاول الاحتلال تكرار لعبته الدائمة في غزة، بالحصول على كافة مزايا الاحتلال دون تكاليفه، فيضمن لنفسه وجود رقابة مباشرة أو غير مباشرة على حركة الأفراد والبضائع من وإلى القطاع، لكن يدار القطاع من جهة فلسطينية أو عربية أو أوروبية موالية للعدو أو على الأقل متفاهمة معه، وبذلك تتحول إدارة المعبر إلى جزء من خطة طويلة الأمد لاستدامة حصار غزة وإعادة هندستها اجتماعيًا وسياسيًا، وعزل المقاومة، ومنع عودتها إلى ممارسة سلطةٍ حقيقية داخل القطاع كما كان الوضع قبل السابع من أكتوبر 2023. فهل سينجح العدو في تحقيق ذلك؟ هذا ما ستجيب عنه ملاحم الأيام والأسابيع والشهور القادمة.

# معبر رفح # فلسطين # مصر # إسرائيل

هاشم صفي الدين: القائد المنتظر الذي يخشى حزب الله غيابه
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
أقاموا بالقاهرة ورفعوا علمهم بالإسكندرية: الصليبيون في مصر

فلسطين